يبدو جلياً، أن هناك توجها جديدا في اختيار المرشحين لرئاسة الوزراء، يختلف عما عهدناه من قبل، فقد جرت العادة، ان يختار رئيس الوزراء من السياسيين أصحاب الخبرة الطويلة، وخاصة من الذين ترعرعوا في كنف القصر وهؤلاء قطعوا اشواطاً في خدمة البلاد وادارتها وآخر رئيسين للوزراء تربيا في مدرسة الجيش، وجمعا بين الثقافة العلمية والعسكرية وحظيا بالقرب من جلالته حيث توسم فيهما الولاء، والثقافة والنزاهة وما يؤهلهما لمنصب رئاسة الوزراء.
وأهم ما في مواصفات آخر رئيسين للوزراء، انهما جاءا من خلفية اساسها الانضباط، وليس لأي منهما، أجندات شخصية، سياسية أو اجتماعية، وليس لأي منهما تعصب اجتماعي او سياسي سابق، فخلاف السيد معروف البخيت مع الحركة الاسلامية، كان من منطلق الحرص على ترتيب الساحة السياسية والمصلحة الوطنية، وليس على أساس موقف شخصي من الحركة.
لقد عانينا في الأردن، من اولئك الذين يأتون، على خلفية تعصب، جهوي او عقائدي، او على خلفية، صراع سياسي مع اشخاص آخرين نافذين، او على خلفية صالونات متصارعة على السلطة.
العسكريون، السابقون، ليسوا اصحاب صالونات وتم تأهيلهم على عين، قائدهم الأعلى وليس لهم مواقف مسبقة من الآخرين، وان كانت لهم مواقف من قضايا وطنية، محلية، ودولية، يحكمها، أن استمرار الاردن ومصلحته واستقراره الاولوية الاولى قبل كافة الاولويات.
السياسيون، الخلافيون، الذين ينقسم الساسة والناس، ازاء تقييمهم، ويرون الناس، اقرب او ابعد منهم لهم مريدوهم ولهم خصومهم السياسيون مما يجعل، مسيرتهم نوعا من الصراع السياسي الداخلي، الذي ينعكس عادة على العمل السياسي، ويثير ضجة داخلية مفتعلة يكونون عادة هم ابطالها.
هذا يفسر، الجلبة والضجة الداخلية التي طالما شاهدناها في الساحة السياسية والاعلامية ومن حول الحكومات والتي تعطي صورة غير حقيقية، عن اوضاعنا الداخلية حتى يحسب المراقب الخارجي، والمتابع لما يرد في الندوات، والاعلام والتصريحات الطيارة عبر الفضائيات المتلهفة على استخدام أي خلاف قد يحرج الدولة، او يشكك في مواقفها او اجراءاتها.
لقد تعودنا في المفاصل الرئيسة في حياتنا السياسية، ان يبرز احيانا العسكريون، المثقفون، فالمفاوضات السياسية مع اسرائيل، قادها جنرال سابق من التكنوقراط الدكتور عبدالسلام المجالي والازمة الداخلية التي تلت ما سمي بهبة نيسان وما رافقها من تدهور اقتصادي وما تلاها من اصلاح اقتصادي قادها الجنرال الامير زيد بن شاكر وحقبة السبعينات ترأس معظمها السيد مضر بدران، وهو جنرال سابق، والبرلمان، يقوده منذ اكثر من عقد جنرال سابق، وغيرهم آخرون، ويمتاز العسكريون السابقون، انهم عندما يخلعون رُتبتهم العسكرية وينخرطون في الحياة المدنية يحرصون أن يلبسوا الكاكي تحت الجلد فتبقى الروح العسكرية، تحت جلودهم، وفي وجدانهم، ولا ينقصهم الولاء والوطنية ولا الانضباط ولا الانصياع لمتطلبات المرحلة، ولا يثنيهم الخوف على سمعتهم السياسية من تضارب المواقف او ما يمكن ان تثيره المواقف السياسية، من عواصف، او اختلاف في الآراء حول اشخاصهم او ادائهم وابرز ما يتميز به خريجو مدرسة الجيش، ان ليس لهم مواقف مسبقة ولا تحيزات مسبقة، وانهم جاهزون لتعلم فنون السياسة، تماما كما تعلموا فنون العسكرية.
صحيح، ان الدوامة السياسية مع الزمن، تغرقهم في الخلافات السياسية، كغيرهم من السياسيين، وانهم اجرأ من غيرهم على ارتياد القرار الصعب الذي قد يثير العواصف من حول مواقعهم، لكنهم عندما يخرجون من المسؤولية، يحافظون على ما يشبه الصمت اللاسلكي، يقنعون برضى جلالة الملك، ولا يثيرون جلبة سياسية او تظاهرات من حول انفسهم ويتصرفون كرجال مهمة عندما ينتهي تكليفهم يؤدون التحية وينصرفون، بانتظار ادوار جديدة، باعتبارهم كادر احتياط في خدمة العرش والبلاد.
من هذا المنظور، هناك، جهات سياسية تتطير من خريجي المدرسة العسكرية وتخشاهم، اولا لانهم كادر منافس يحظى بثقة، جلالة الملك، الذي يحظى بثقافة وتكوين عسكري مماثل؛ ولانهم ليسوا وسطيين عندما يتعلق الامر بمصلحة النظام واستقرار البلاد، او الحاجة لاجراء جراحات مؤلمة، بدونها قد تغرق البلاد في الفوضى الداخلية، سواء على الصعيد الاجتماعي الاقتصادي، او السياسي الامني، فالمؤسسة العسكرية تساهم في تنمية الكوادر السياسية، ولكنها لا تحتكر الساحة السياسية، فالفوضى المدنية، تحتاج احيانا الى الكاكي، والانضباط العسكري، بدون روح انقلابية لشد مفاصل العمل الحكومي والوطني.
الرئيس الذهبي، كما كان الرئيس البخيت وجوه مريحة، للكثيرين من ابناء وطننا ممن يقلقهم الاستقطاب والتحيز الجهوي او السياسي، او غياب اللون احيانا عندما يتعلق الامر بالمفاصل الصعبة التي تمس مصالح الاردن الاساسية لانهم لا يجيدون الرطانة السياسية واللغة السياسية التي تحتمل الموقف، ونقيضه، ويفضلون الموقف الذي يكشف خطورة ما يمثله النقيض او ما تعنيه خطورة المجاملة في الحسابات الوطنية وهم ايضا مقلقون لاصحاب الاجندات التي سقوفها، خارج سقف الوطن.
مثقفو الجيش، والامن، في البزات المدنية، عنوان مهم في المرحلة السياسية الراهنة. لكن المقياس، في دور أي لاعب سياسي مدني او عسكري، هو حسن الاداء، ووضوح الرؤية ومحصلة النتائج وشدة عصف التيارات السياسية، في الداخل، والخارج التي ترافق أي حكومة وتحديات المرحلة واحداثها، فالتحديات الداخلية، اقتصادية، وسياسية ومثلها الخارجية، تبدو وكأنها قدر يحيط ببلدنا ومنطقتنا.
حفظ الله، بلدنا، وقيادتنا وشعبنا حتى يعبر الأردن، بهمة ابنائه عزيزا قويا الى شاطئ الأمان.
منقول من جريده الراى وهى جريده يوميه عربيه تصدر عن المؤسسه الصحفيه الاردنيه.